• ×

02:11 مساءً , الخميس 28 مارس 2024

باريس بين الطهطاوي والجهيمان

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
باريس بين الطهطاوي والجهيمان
كثر هم من يسافرون إلى الشرق أو إلى الغرب ، ولكن القليل منهم من يوثق سفراته ، أو يسجل ما شاهده في رحلاته ؛ ولعل ذلك يعود إلى العين التي ينظر فيها من يسافر ، والنفس التي تتأثر بما تشاهده هناك ؛ وربما يعود أحياناً إلى سحر المكان المسافَر إليه ، وأثره في تلك النفس الأدبية الزائرة .
وباريس ، عاصمة فرنسا ، التي وصفها طه حسين بأنها \"بلد الجن والملائكة\" في كتابه : (أديب) استهوت عقول الأدباء ، ومخيلات الشعراء ، وهوسات هواة الأسفار ، منذ انفتحت علاقات الشرق مع الغرب ، ومن هؤلاء استعرضُ اثنين زارا باريس ، ونظراها بعين الناقد الحصيف ، وشغاف الأديب الأريب ، مع أن ما بين زيارتيهما يصل إلى 125 عاماً ، دون أن يحتذي اللاحق بالسابق بحسب ما صرح لي اللاحق - .
هذان الأديبان هما : رفاعة بن رافع الطهطاوي ، وعبد الكريم بن عبد العزيز الجهيمان .
كان رفاعة بن بدوي بن علي بن محمد بن علي بن رافع الطهطاوي
(1801-1873م) أحد العلماء المصريين الذين اشتهروا في القرن التاسع عشر ؛ إذ رافق أول بعثة طلابية من مصر إلى فرنسا كمرشد ديني وكان لهم دور بارز وأثر محمود في الحياة الثقافية في مصر بعد عودتهم.
تلقى الطهطاوي العلم بالجامع الأزهر طوال ثماني سنوات ، ولما تخرج فيه اشتغل بالتدريس بالجامع نفسه ، وفي عام 1240هـ (1824م) عين إماماً وواعظاً في الجيش ، ثم طلب محمد علي
حاكم مصر- من شيخ الأزهر حسن العطار اختيار مرشد ديني وإمامٍ للبعثة الطلابية التي أرسلها محمد علي لتلقي العلوم الحديثة في فرنسا ؛ فرشح رفاعة لهذه المهمة ، ولهذا سافرت البعثة عام 1241هـ (1826م) ، فلما وصل عكف على دراسة اللغة الفرنسية من تلقاء نفسه ، ورغبة منه في تحصيل العلوم بها ، أو نقلها منها إلى العربية ، وقد سجل وصفاً تفصيلياً لهذه الرحلة والبرنامج اليومي للبعثة في كتابه الشهير (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) وقد وصف الحياة الاجتماعية والعلمية في فرنسا وصفاً دقيقاً ومفصلاً . وقد عاد رفاعة بعد أن قضى في باريس نحو خمس سنوات في الدراسة والتحصيل إلى جانب عمله في البعثة وقد ترجم من الفرنسية عدة كتب أهمها :
1- خلاصة الإبريز والديوان النفيس ، وهو رحلته إلى فرنسا ذكر فيها ما شاهده من العادات والأخلاق والأزياء ، وآثار التمدن الحديث .
2- التعريبات الشافية لمريد الجغرافية .
3- جغرافية ملطبرون .
4- قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر.
5- مواقع الأفلاك في أخبار تليماك وقد ترجمه حين عمل في السودان .
6- هندسة ساسير .
فولاه محمد علي بعد عودته لمصر منصب الترجمة في مدرسة الطب ، وعندما انشئت مدرسة الألسن عين رفاعة أستاذاً بها ومديراً لها ، وقد بلغ عدد الكتب التي ترجمها خريجو المدرسة ألفي كتاب .
كما أن رفاعة ترجم الدستور الفرنسي ، ثم عمل في ميدان الصحافة ، فعمل على إنشاء وتنظيم جريدة (الوقائع المصرية) سنة 1248هـ ، ثم أشرف على مجلة (روضة المدارس) ، كما ألف كتاباً في تعليم المرأة سماه (المرشد الأمين للبنات والبنين) ، وألف كتباً أخرى في الرحلات والتاريخ والجغرافيا والأدب والبلاغة والفقه والقانون .
ابتدأ الطهطاوي يصف برنامج البعثة بعد وصولهم إلى باريس ، وأنهم مكثوا سنة كاملة يقيمون في بيت واحد ، ثم تفرقوا فمنهم من سكن مع عائلات فرنسية ، مقابل مبلغ يدفعه للطعام والشراب والسكن والتعليم ، ومنهم من سكن مع شباب فرنسيين .
وصف رفاعة الحياة العلمية في فرنسا قائلاً :
\".. والعلوم في مدينة باريس تتقدم كل يوم فهي دائماً في الزيادة ، فإنها لا تمضي سنة إلا ويكشفون شيئاً جديداً فإنهم قد يكشفون في السنة عدة فنون جديدة أو صناعات جديدة أو وسائط أو تكميلات ..\" ، وقال أنه يندر وجود إنسان في باريس لا يكون تحت ملكه شيء من الكتب فيتمنى مثل ذلك في مصر حتى تنتعش الحالة الثقافية .
كما وصف الحياة الاجتماعية في فرنسا آنذاك فقال يصف عادات الطعام والشراب : \"..فيعطى لكل انسان في صحنه شيء يقطعه بالسكين التي أمامه ، ثم يوصله إلى فمه بالشوكة لا بيده..\" وقال ان أحدهم لا يستعمل أدوات غيره ، وقال انهم لا يستعملون صحون النحاس للأكل فهي مخصصة فقط للطبخ ، أما الأكل فمخصص له صحون مطلية ، وذكر أن للطعام مراتب معروفة فأول افتتاحهم الطعام يكون بالشوربة ثم بعده اللحم ثم بكل نوع من أنواع الأطعمة كالخضروات والقطورات (هكذا) ثم بالسلطة ثم يختمون أكلهم بالفواكه ثم بالشراب المخدر [المسكر] ، إلا أنه استدرك قائلاً :\"..إلا أنهم يتعاطون منه القليل\" ثم بالشاي والقهوة وقد وصف باريس في جدها وهزلها وعملها ولهوها ، ووصف المسرح الفرنسي وما يدور على خشبته من تمثيليات .. كما وصف الصحف وأنواعها وأصنافها وتخصص بعضها في الطب وبعض أمور المملكة .
كما شرح وسائل النقل والبريد وترقيم المنازل ...الخ .
وهنا أريد أن ألقي الضوء على تجربة أستاذنا عبد الكريم الجهيمان كونها تنطلق من بيئة مختلفة جداً عن البيئة المصرية التي انطلق منها الطهطاوي . كون الجهيمان جاء من بيئة ينقصها الكثير ..
فبعد حوالي قرن وربع وبالذات عام 1371هـ (1951م) نجد عبد الكريم الجهيمان (مطوع) أولاد سمو الأمير عبد الله بن عبد الرحمن يذهب إلى باريس مصاحباً لتلميذه (يزيد بن عبد الله بن عبد الرحمن) ، الذي ذهب بقصد العلاج ، فبقي معه هناك قرابة السنة فدرس اللغة وتعلم قيادة السيارة وأخذ رخصتها
الدولية ، واختلط بمختلف فئات الشعب من علماء وغيرهم ، وتعرف إلى شخصيات عربية بارزة . وألف لأول مرة كتابه (ذكريات باريس) والذي تأخر نشره حوالي ثلاثين عاماً .
وقال في مذكراته إنه نتيجة لهذه الإقامة الطويلة في باريس واختلاطه بشتى الطبقات ، ومعرفته بكثير من عادات الفرنسيين فقد ألف كتاب اسماه (ذكريات باريس) سجل فيه انطباعاته ومشاهداته .. وعن مقابلاته لبعض الشخصيات التي كان يسمع بها فقال :\".. فمن هذه الشخصيات ما وجدته أكبر مما سمعت عنه ومنها ما صغر في عيني .. ورأيت أنه لا يستحق أن يحتل ما هو فيه من مركز رسمي أو مركز اجتماعي .. وعرفت أن السفر هو الذي يظهر الرجال على حقيقتهم ..\" (1).
وهكذا عاد الجهيمان إلى المملكة وبدأ العمل من أجل تغيير الحياة الاجتماعية وتوعية المجتمع ليلحق بالركب ، فبدأ أولاً بإصدار جريدة (أخبار الظهران) في المنطقة الشرقية عام 1374هـ / 1954م واستمرت بالصدور ثلاث سنوات أوقفت بعدها لمطالبته بتعليم البنات . عاد بعدها للرياض ليواصل كفاحه عن طريق كل ما صدر بها من صحف ومجلات (اليمامة ، القصيم ، الجزيرة ، المعرفة ، المالية والاقتصاد) وغيرها إضافة لعمله في وزارتي المعارف والمالية ، ثم بمؤلفاته العديدة واهتمامه بأدب الطفل والأمثال والأساطير وغيرها ، فكأن ما دفع رفاعة رافع الطهطاوي دفع صاحبه الجهيمان ولو بعد حين .. ألا يستحق الجهيمان أن يكون مثل الطهطاوي في شهرته وعلمه !؟ .. ولنستعرض ولو سريعاً كتابه والذي سماه (ذكريات باريس) وقال في تقديمه كتبت هذه الذكريات نهاية عام 1371هـ الموافق 1952م . وطبعها النادي الأدبي بالرياض عام 1400هـ وقدم لها يونس بحري المذيع العراقي الشهير في إذاعة برلين أثناء الحرب العالمية الثانية . وقد أرخ مقدمته في 3 محرم 1372هـ . وقال : إنه اطلع على مسودة كتاب صديقه الأخ الأستاذ عبد الكريم الجهيمان (ذكريات باريس) وقرأه وأعجب به وقال : \".. فلقد حوى من الذكريات العطرة عن باريس كلّ ما يود الاطلاع عليه عشاق باريس وأصدقاؤها سواء في ذلك من شاهدها أو من لم يشاهدها ..\" واختتم مقدمته بقوله : والحق فإن ذكريات باريس كتاب ستفخر به المكتبة العربية لما فيه من شعر ونثر هو السحر الحلال الذي ينسجم مع جمال عاصمة النور باريس\".
أما المقدمة فقد قال الجهيمان- عنها إنه وضعها لنفسه كذكرى لهذه الرحلة إلى بلاد أوروبا لينظر فيها بعد سنة أو أكثر لكونها تستعرض شريطاً لبعض ذكرياته .. وما كان يخطر في باله عندما كتبها أنها ستطبع أو تنشر ويعرض نفسه لهجمات النقاد ومداورات الحساد .
وقال من باب التواضع : \".. إن هذه الذكريات قشور وزبد وغثاء ليس فيها شيء من الدراسات الفاحصة ولا تنطوي على شيء من النظرات العميقة .. فهي كلمات وصور جمعت من هنا وهناك ونظرات خاطفة ضعيفة لم تستطع أن تخترق القشرة إلى الصميم ..\" ، ثم بدأ يصف الرحلة .
وكان في طريقه من بيروت إلى باريس مروراً بمطار القاهرة وهو لا يعرف شيئاً من اللغة الفرنسية وحتى المفوضية السعودية بباريس لا يعرف عنوانها .. ونجده يصف الرحلة بشيء من التفصيل ولا يترك شاردة ولا واردة إلا وذكرها بدءاً بالمطار وتسهيل أمور الركاب ويصف الطائرة بكل تفاصيلها فهي من طائرات (أير فرانس) ذات الأربع محركات ... وقال :\".. ثم هزت الطائرة جسمها الثقيل وركضت سريعاً ثم ما زال هذا الركض يتزايد حتى اقتلعت نفسها من الأرض وحلقت بنا في جو السماء ..\".
وبعد أن فكت الأحزمة أخذ كل واحد من الركاب يحادث جاره بلغة لا يفهمها فجاءت المضيفة لتلبي طلبات الركاب فلم يفهم كلامها ولم تفهم له .. فتحير وخجل من نفسه وقال :\" فانكمشت وصغرت عند نفسي وتضاءلت حتى صرت لا أكاد أحس بوجودي .\".
وقال إن الطائرة قد توقفت بمطار القاهرة فنزل الركاب فنزل معهم ثم توجهوا إلى أحد المطاعم في المطار فسعى في زمرتهم فصار يقلد الركاب في حركاتهم وسكناتهم تقليداً أعمى وذلك خوفاً من أن يأتي بعمل يلفت نظرهم إلى جهله وغباوته كما يقول - .
كل هذا من أجل أن يقول إنه مثل (الأطرش في الزفة) بدون لغة يتفاهم فيها معهم ... وبعد إقلاعهم من مطار القاهرة إلى مطار نيس بفرنسا حان وقت تقديم وجبة الطعام فحمد الله أنها مقررة سلفاً لكل راكب بلا سؤال ولا جواب ، وذلك يعنى حتى لا يحرج بسؤاله بلغة لا يفهمها ..
كان لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وصفها .. فيقول انه قد زود كل راكب
ببطانية غطاء- ووسادتين . وأن هناك من بين الركاب شخص مضحك يقضي معظم وقته يغني ويهز رقبته .. ويأتي بنكت مضحكة كانت سلوة الركاب .
ويقول بعد أن وصف إجراءات الدخول عن طريق مطار (نيس) بعد وصولها الساعة الثانية عشر إفرنجي إذ لم يرَ منها إلا أنوارها .. وقد أشر الموظفون المختصون على جوازات السفر في هذا المطار وسألوهم عما معهم من النقود والشيكات فأجاب الركاب عما يوجه لهم من أسئلة وجاء دوره فتبرع أحد الركاب وترجم بينه وبين هذا الضابط وقال : \".. وصارت بيني وبين هذا المترجم معرفة وتآلف وتعلقت به كما يتعلق الغريق بأسباب النجاة ..\" .
غادروا مطار نيس إلى مطار باريس فوصلوا إليها مع طلوع الفجر فحمد الله على تأخر وصول الطائرة .. إذ لو وصلت بالليل فستتعدد مشاكله لأنه لا يعرف المكان الذي ينزل فيها صاحبه .. ومع ذلك نجده يتأسف عن عدم رؤيته باريس من الجو نهاراً ، لأن بقايا الليل كانت لا تزال تخيم عليها .
بعد أن استلم متعلقاته [حقائبه وأمتعته] ركب مع بعض الركاب الأتوبيس إلى وسط المدينة وكان لا يعرف سوى جملة واحدة هي خليط بين الفرنسية والإنجليزية وهي (لقاسيون أربي سئوديت) أي المفوضية السعودية وقد علمها لـه الصديق الأستاذ أحمد علي ، وهو يودعه بمطار الرياض . ومع ذلك فهم الموظف مقصده فاستدعى سيارة أجرة وأعطاها عنوانه ... وقال وهو يتجول في باريس بعد أن رسم لها في ذهنه صوراً خيالية زاهية فتبادر إلى ذهنه المثل العربي (سماعك بالمعيدي خير من أن تراه).. وقال ان هذا المثل قد زال سريعاً وتلاشى وكذبه التعمق في الحقائق.
وكان يتصور أنه سيرى عمارات شاهقة .. فبدأ يصف باريس وجوها وأشجارها وأمطارها وغاباتها ومعاملها ومصانعها وهي تقذف أكواماً هائلة من الدخان الأسود فينتشر في سماء باريس ويعكر هواءها الجميل .. وقال إن عدد سكانها 5 ملايين عدا السواح أما سكان فرنسا فيبلغ 40 مليون .. أما الريف فهواؤه منعش وترى قطعان البقر والضأن .
ثم بدأ يتحدث عن الأخلاق والعادات . من دور السينما ووسائل المواصلات والحدائق ، وعن الزحام المنظم والطوابير وأن من يشذ عن هذه القاعدة أو يتناساها لوجهت إليه النظرات والازدراء ولرموه بالجهل والهمجية وفقدان الشعور والحساسية .. وقال إن الوقت له قيمته وإنهم قد استثمروا ما كنا نقولـه في أمثالنا (الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك) فهم جميعاً يعرفون قيمة الوقت ويحافظون عليه فلا يضيعون منه شيئاً في غير فائدة علمية أو فائدة جسمية أو فائدة مادية ..
كما تحدث عن أدب الحديث فلا يمكن أن يحدثك باريسي بأمر إلا بدأ حديثه بـ(من فضلك) وإذا أسديت له إرشاداً أو اشتريت منه شيئاً فدفعت قيمته قال لك (شكراً) .. وقال: إن ألفاظ السباب والشتائم لا تكاد تجري على ألسنتهم وكل ما يستطيع أن يوجهه إلى من يسبه أن يقول لـه (أنت قطعة خيار صغيرة) وقال إن أوقاتهم كلها محدودة ، فهناك وقت عمل ، وهناك وقت الأكل ، ثم وقت النزهة ، فوقت النوم ولا تستطيع أن تقابل شخصاً إلا بميعاد ..
إن الغربيين ليسوا أكثر من الشرقيين ذكاء لكنهم أكثر منهم صبراً
ومثابرة .. هم لا يعملون لليوم ولكنهم يعملون للغد .. أما الشرقي فإنه ذكي ولكنه عجول ملول يعمل ليومه ولا ينظر إلى غده ، وأغلب أعماله مرتجلة وليست وليدة تفكير ودراسة ... والناس أمام القانون سواسية لا فرق بين كبير وصغير ، ومن أخطأ فعليه أن يدفع ما ينشأ من أضرار نتيجة أخطائه ، ولا يعذر الإنسان بجهله بالقانون أو نسيانه إياه . ومع ذلك تجد الباريسيين يحترمون الغرباء سواء من البوليس أو الحكومة أوالأهالي ، وهم متسامحون يحبون السائحين ويرحبون بهم ويرون فيهم مورداً من موارد رزقهم .
وعن الاهتمام بالرفق بالإنسان والحيوان يذكر أن هناك جمعيات كثيرة مبثوثة في طول البلاد وعرضها لمراقبة ملاك الحيوانات في حسن معاملتها .. وعن معاملة الطفل فإذا قسا هذا الوالد على أولاده فهناك من يرشده إلى الطريقة المثلى التي يجب عليه أن يسلكها .. وعن النظافة والمحافظة على الجمال فيقول إن الشوارع مسفلتة لا ترى فيها غباراً ولا تراباً ولهم طريقة خاصة بالسفلتة فإنهم حين يسفلتون الشوارع يجعلون وسط الشارع محدباً ثم يتحدر قليلاً قليلاً ذات اليمين وذات الشمال حتى ينتهي الانحدار إلى الرصيف ... وعن المجاري وأماكن قضاء الحاجة ونظافتها .. فقال إنك تدخلها فلا تشم فيها رائحة كريهة أو ترى فيها منظراً متقزز منه ، بل إن هذه الأمكنة قد سلط عليها المياه بشكل مستمر الجريان لتجر في طريقها الأوساخ فلا ترى ذباباً ولا ناموساً ولا شيئاً من الحشرات
المؤذية .. أما القمائم فتجمع في صفائح مخصوصة ، فإذا جاء الصباح أخرجوها عند أبوابهم في الشوارع فتمر سيارات خصصت لهذه الأشياء فتحملها وتترك الأوعية في أمكنتها .
وقال إن حب الوطن أمر مطبوع في النفوس .. فكل مواطن يرى لزاماً عليه أن يفدي وطنه بماله وأهله ونفسه وشعار كل مواطن (ليمت الأفراد وليحيى الوطن) .
ويذكر : إنك لا تجد في فرنسا أمياً واحداً فقد احتفلت الحكومة قبل 26 عاماً بتشييع جنازة آخر أمي في البلاد . وقال إن التعليم إجباري إلى سن الرابعة
عشره ، وذكر أحد الشباب السعودي المتواجد وقتها كطالب علم في باريس وهو محمد خوقير شقيق الدكتور عصام خوقير طبيب الأسنان والكاتب المشهور قبل سنوات . وأنه كان يسير مع أحد معارفه فلم يعرفوا عنوان من يقصدوه فعرضعوا العنوان على أحد الكناسين في أحد الشوارع فدلهم عليه ..
وذكر أن الشباب الفقراء الذين لا يستطيعون نفقات التعليم فإن الحكومة الفرنسية تتكفل بإدخالهم مدارس صناعية حسب ميولهم .. فيصبح المواطن بعد تعلمه عضواً عاملاً في المجتمع الإنساني يفيد نفسه ويفيد بلاده ولا يكون عالة على غيره ..
وحتى الطفل لـه حقوق وواجبات فهم يعودوه منذ صغره على الاستقلال فمنذ المهد له حجرته وسريره الخاص وله ميعاد ليتناول وجبته . وله ميعاد لنومه .. وميعاد لاستيقاظه فإذا كبر وترعرع عودوه على الاستقلال بنفسه فله حجرته وألعابه وتفكيره الخاص .. فإذا بكى الطفل لسبب يمكن تنفيذه نفذوه ، وإذا لم يكن في الاستطاعة رفضوه ، فيتركونه حتى يسكت من تلقاء نفسه .. فقال \" .. فإذا رأى الطفل أن بكاءه لا تأثير لـه على والديه توقف عن استعماله وعرف أنه سلاح لا يجدي وحيلة لا تسمن ولا تغني من جوع \". وقال إنهم لا يخوفونه بالعفاريت ولا بالوحده أو بالظلام ولذلك تجد الطفل له شخصيته المستقلة .
وتطرق في حديثه لوصف تفصيلي للمدينة الجامعية ولجامعة السوربون والتي أنشئت في القرن الثالث عشر الميلادي وعن كلياتها ومن تخرج فيها من العظماء والمفكرين ، وعن الجرائد والمجلات وتأثيرها في تثقيف الشعب وتعليمه وتعريفه بما يقع في بلاده وخارجها من حوادث وأخبار ومن اختراعات ومستحضرات طبية وما إلى ذلك ، وقال إن في باريس وحدها ما ينوف على مائة جريدة ومجلة منها الصباحية ، ومنها المسائية وفيها الأسبوعية والشهرية .
وذكر أنك ترى الفلاح في مزرعته والعامل في معمله ، وفي يديه جريدته يقرأ فيها ما يهمه .
وعن الأيام الوطنية والاحتفالات فحدث عنها ولا حرج ! وحتى شكل الحكومة ونوعها قال عنها : كانت ملكية ثم بعد الثورة صارت جمهورية ، فالشعب ينتخب نواباً لمدة أربع سنوات والنواب بدورهم ينتخبون رئيس الجمهورية لمدة سبع سنوات .
وعدد الوزارات الموجودة حتى عام 1371هـ ، ثم استعرض آثار باريس المشهورة مثل (برج إيفل) و(المسجد الجامع) و(قبر نابليون) ولمحة عن حياته و(الأوبرا) و(كنيسة نوتردام) و(قصر فرساي) و(متحف اللوفر) و(متحف الشمع) و(قصر شيو) ، ثم تطرق لأشهر الشوارع والميادين مثل : ساحة الكونكورد والجندي المجهول ، وساحة الباستيل ، وشارع الشانزلزيه والجيش الكبير . وأحياء باريس القديمة ، وطرق المواصلات ، وغابة بولونيا ، وفي دوفيل .. وبعد أن استعرض أهم المعالم والمظاهر وعلى مدى مائة صفحة جاء إلى فصل آخر في الكتاب وهو (شخصيات قابلهم) .. سمو الأمير (الملك) فيصل بن عبد العزيز ، الأمير محمد بن عبد العزيز ، والدكتور رشاد فرعون السفير السعودي وقتها -وطبيب السعوديين البروفيسور ليفسور ، والأستاذ محمد التابعي ، وصلاح ذهني ويونس بحري ، وهو المقدم لهذا الكتاب . وقال : إنه المذيع الذائع الصيت والناقد الموهوب اللسان .. إن كلماته في إذاعة برلين لا تزال تجلجل في كلمته الخالدة (حي العرب) لا تزال ترن في الآذان ، وقال عنه :\".. والأستاذ يونس بحري محيط بالأدب والتاريخ قديمه وحديثه ومطلع على أسرار السياسة وخفاياها .. إذا جلست معه خاض بك في أحاديث كثيرة ترى من خلالها أنك أمام شخصية قوية وعقلية جبارة ، وهو جليس أنيس المعشر .. لطيف المخبر .. يلبس لكل حالة لبوساً ، ويعرف أهواء النفوس فيتصرف بحسب هذا الناموس ..\".
وفي آخر الكتاب تطرق بشكل مختصر إلى بلدان أخرى مرّ بها في طريق عودته ، وهي بلجيكا وهولندا وسويسرا وإيطاليا ..
وثمة مقارنة أعقدها هنا بين الرجلين (الطهطاوي والجهيمان) في رحلتيهما الباريسيتين ، وفي أمور تشابها بها في ظروف حياتهما :
الطهطاوي الجهيمان
1- التعليم الديني بالأزهر التعليم الديني بالمعهد الإسلامي
2-السفر لباريس كعالم ديني السفر لباريس كعالم ديني
3- المطالبة بتعليم المرأة المطالبة بتعليم المرأة
4- رئاسة لتحرير الصحف والمجلات رئاسة لتحرير الصحف والمجلات
5- قفل مدرسة الألسن والنفي للسودان قفل صحيفته والسجن لمطالبته بتعليم المرأة
6- التأليف عن باريس التأليف عن باريس
7- العمل في مجال التربية والتعليم العمل في مجال التربية والتعليم
أما تشابههما في مجال هاتين الرحلتين ، فيظهر في انبهارهما بالتقدم والتطور بما شاهداه في باريس ، ومحاولة نقل ذلك إلى مجتمعيهما ، فيضاف إلى انبهارهما قدرتهما على تجاوز الصدمة الحضارية إن جاز التعبير- بالانتقال من مجتمع محافظ بدائي إلى مجتمع متقدم .
وقد سألت الأستاذ الجهيمان مساء يوم الإثنين 27/4/1428هـ الموافق 14/5/2007م . عن معرفته برفاعة رافع الطهطاوي وهل قرأ له قبل تأليفه كتابه (ذكريات باريس) فنفى ذلك واستدرك قائلاً :\"إنه سمع به وعرف أنه قد ذهب مع البعثة الطلابية أو مع عدد من أفراد الجيش المصري إلى باريس كمرشد ديني وقد أصبح له شأنٌ بعد ذلك ، وسمع أنه ألف كتاباً عن باريس سماه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) ولكنه لم يطلع عليه ..
وكذا سألته عن زكي مبارك فقال : \"قل الدكاترة زكي مبارك .. فقد سمعت أنه كتب ذكرياته هناك وسماه أيضاً (ذكريات باريس) وقد سميت كتابي بالاسم نفسه ؛ فكل له طريقته ولكل واحد منا له أسلوبه\" .

محمد بن عبد الرزاق القشعمي

بواسطة : admin
 0  0  2.8K
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 02:11 مساءً الخميس 28 مارس 2024.