• ×

11:22 صباحًا , الأحد 5 مايو 2024

تأملات في تكريم \"صحافة الأفراد\"

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
تأملات في تكريم \"صحافة الأفراد\"


إيمان القويفلي. *


تكريم الشيوخ أمرٌ طيّب دائماً. إنهُ أمرٌ طيّب فوق العادة أن يُكرّم أبطالُ زمن صحافة الأفراد. يجمعهم التكريم معا ً ويضعهم تحت الضوء، يتذكرهم من يعرفهم كـ(حالة)، ويثيرون كأفراد تساؤل من لا يعرفهم. هذه صور صحفيي الخمسينيات الميلادية منشورة بمناسبة التكريم على صفحتين في الصحيفة التي لسبب غير مفهوم لم تنشر اليوم تفاصيل تجربة كل واحدٍ منهم، التي حدثت قبل 50 سنة. لكن تلك لم تعد أسرارا ً يُحظر النطق بها. مرجع المرحلة محمد القشعمي نشرها في كل مكان. كتبه ومقالاته في صحيفة \"الجزيرة\"، ونصوص أوراقه في المنتديات منشورة على الشبكة. \"أخبار الظهران\" أوقفت بسبب مقالٍ عن تعليم المرأة اعتُبرَ سابقا ً لأوانه، و\"سعد البواردي\" اعتقل لشهرين وبضعة أيام، و\"عبدالله بن خميس\" وزّع عددا ً من مجلة \"الجزيرة\" رغم استلامه برقية تأمره بعدم التوزيع.

من الذي تمّ تكريمه مع افتتاح معرض الكتاب الدولي بالرياض هذا العام، الأفراد أم المرحلة التي يمثلونها؟ القشعمي الذي ظلّ يُلحّ على الفكرة حتى نفذت، كتب في 2003 عن ضرورة الاهتمام بهؤلاء \"الذين ضحّوا بجهودهم ومالهم ووقتهم (....) بالغالي والرخيص في سبيل وصول المجتمع إلى هذا المستوى من التقدّم. (....) تقديرا ً للمشوار الصعب والطويل\". بهذه الصيغة تبدو الفكرة كأنها مشروع لتكريم الأفراد، تضحياتهم ومُنجزاتهم الشخصية، مشروع تكريسٍ اعتيادي ومطلوب للرعيل الأوّل. هكذا بَدَت. لكن عندما اصطفت صور الرّجال المسنين في الصحف، واحدا ً جوار الآخر، غصبا ً بدا الأمر أوسع من ذوات الأفراد. بدا الأمر تكريما ً للمرحلة. عصر المؤسسة الإعلامية العملاقة يُكرّم مرحلة صحافة الأفراد. زمنٌ مختلف كلية عن الحاضر. واختلافه ليس عبر اللغو الذي يقارن بين البدائية والتطور، والضآلة والضخامة. هذه مقارنة تسطيحية وفهمٌ شكلاني، يختصر روح المرحلة في المكائن والضخامة المادّية والبشرية وتطوّر التنظيمات والقواعد، مقارنة تنتهي إلى حيث تصبّ وبالكامل في مصلحة الحاضر، بالطبع. لكن روح المرحلة ليست الماكينة! قد تكون الماكينة متخلفة جداً، لكن السياق الذي تستخدم فيه، الغرض الذي تخدمه، متطوّر.

صحافة الأفراد اسمها \"صحافة الأفراد\" لأنه لم يكن يلزمك كفرد أكثر من أن توافق على الالتزام بنظام المطبوعات، ثم يصبح من حقك أن تصدر مجلة أو صحيفة ولو كنتَ وحدك طاقم التحرير. الأفراد الذين أصدروا تصرّفوا في مطبوعاتهم بحريّة ملفتة. مشوا في بعض الأوقات في مساراتٍ فردية وتلقوا العقوبة لأجل هذا الانفراد. الأخبار لا تحمل صفات الخبر، واللغة لم تكن موضوعية وفيها الكثير من الإنشاء عتيق الطراز، لكن المَطالب والمُساءلات صريحة ولا تلتزم المداراة والتعمية التي التزمتها الصحف لوقتٍ طويل بعد تلك المرحلة. حتى عندما تتساءل عمّا كان يشغلهم تلك الأيام، تعود إلى مقالات عبدالكريم الجهيمان المجموعة في كتبه، تقرأ المخاطبات المباشرة للوزراء ولأرامكو والكتابات حول الفساد والمحاسبة. أليسَ هذا هو الكلام الذي عندما سُمِحَ للصحف قبل بضعة أعوام ٍ أن تنشر ما يشبهه، اعتُبِرَ فتحاً كبيراً لحرية التعبير؟ المكائن بدائية والأنظمة بدائية لكن ما هو بدائي يترافق دائماً مع قدرٍ غير مقصودٍ من الحرية. مرحلة صحافة الأفراد هي مرحلة سهولة الإصدار واختفاء سيطرة الخط العام الموحّد والإيقاع الواحد، والمركزية غير الناضجة أو بكلمة أخرى، غير القوية.

تتأمل صورهم. هناكَ مبررٌ وجيه للتفكير في تقلبات السياق تجاههم. أليسوا اليوم يكرّمون من أجل ما عوقبوا من أجلهِ يوما ً؟ أليست مرحلة الأفراد التي يجري الاعتراف بفضلها الآن وتكريمها هي ذاتها المرحلة التي طُويَت؟ ليس على المستوى التنظيمي والشكلي فقط، حتى على مستوى ميزاتها التي جاءت عفوا ً برفقة البدائية. الانتقال إلى زمن المؤسسة عنى التطوّر. لكنه عنى أيضا ً في هذه الحالة خسارة المقدار من الاستقلال والمساحة من الحرية التي تمتّع بها الفرد، وإن كانت غير مقصودة. خسارة تصعب بدرجات مختلفة ملاحظتها عموما ً في الانتقالات من الفرديّة إلى المؤسساتية. تغطّي عليها - على الخسارات - ميزات المؤسسة، الضخامة المالية، التنظيم، تعدد الشركاء، العمل المُمسَك بهِ جيداً، جداً. ومع الضخامة والتنظيم والتطور يأتي تعقيد الحسابات والمصالح، تعدد الارتباطات، وفي بعض الحالات، توظيف المؤسسة بكفاءة عالية لخدمة أهدافٍ خارجة عن ذاتها. عندما تستدعي المؤسسة الصحفية، صحافة الأفراد، فإنها تستدعيها وتتذكرها على أساس أنها الأب الشرعي للحاضر، الذي هو الوريث الشرعي. كَم وَرث؟ ماذا وَرث؟ إلى إي حدٍّ وَرث؟ بمناسبة التكريم الجميل: هناكَ مُبرر وجيه للتفكير في ما لم ترثه الصحافة المؤسسية من صحافة الأفراد.

تقلّب السياق تجاههم كثيراً. احتضنهم، ثمّ نبذهم، ثم استدعاهم وكرّمهم كآباء شرعيين رغم أن السياق ذاته لا تمثل تطبيقاته ومؤسساته إيمانا ً بما بات هؤلاء الآباء يرمزون إليه. من كون ترخيص الإصدار الصحفي أمراً في متناول الجميع ما يُشير، بالتالي، إلى أن حق التعبير مكفولٌ للجميع، تغيّر الأمر إلى كونه أمرا ً شديد الصعوبة، يقترب من الإعجازية، بما يعنيه ذلك. ومن كون الأفراد يلعبون في هامشٍ من الاستقلالية ويُنتجون درجة من التنوع وتعابير أكثر التصاقاً بالذات الفردية، تغير الأمر إلى مفهوم \"السياسات العامة\" التي لا محيد عنها ولا اختلافَ فيها، وطغيان المؤسسة والمركز على ذوات الأفراد.

الصّور والسّيَر متجاورة، تبدو حقاً كتكريم للمرحلة المنقرضة رغم أنهُ لم يُقصد أكثر من تكريم ذوات الصحفيين القدامى وتضحياتهم الشخصية، درعٌ وشكرٌ وصورة ضوئية، احتفالية لطيفة؛ لكن هذا غصبا ً يقود إلى التفكير في الزمنين. تكريم الآباء في سياقاتٍ أخرى يأتي بالإضافة إلى الاحتفالية، بالتأكيد على الإيمان بما يرمز إليه هؤلاء الآباء. الإيمان بالقول، بالفعل، بطبيعة المرحلة وآلاتها وتمظهراتها. آنذاك لا يعود تكريما ً للأب فقط، إنه تكريم لإنسانية كل الناس.

* كاتبة سعودية *

جريدة الوطن الخميس 26 ربيع الأول 1429هـ الموافق 3 أبريل 2008م العدد (2743)

http://www.alwatan.com.sa/news/write...o=2743&id=5097

بواسطة : admin
 0  0  2.8K
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 11:22 صباحًا الأحد 5 مايو 2024.