• ×

12:37 صباحًا , الجمعة 19 أبريل 2024

فردٌ مِنَ الشَّعب يسأل: أين الطَّريق؟

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
حسين بافقيه.

في عام 1356هـ تسلَّم عبدالكريم الجهيمان (1330-1433هـ) نُسَخَ كتابه «محاورةٌ طريفة بين ذي لِحْيةٍ ومحْلوقها»، ولم يكن الكتاب سوى رسالة صغيرة في ملزمتين، حَشَد صاحبها نفسه للمنافحة عن القضيَّة الَّتي تجرَّد لها، وبلغ مِنْ حماسته لما آمَن به أنْ أوصى شيخه إبراهيم الشُّورَى أنْ يطبعها في مصر، وكان له ما أراد.

اختار عبدالكريم الجهيمان مصر مكانًا لطباعة رسالته هذه، وليس مكَّة المكرَّمة، حيث يقيم فيها، في تلك المدَّة، وفيها مطبعتان إحداهما تملكها الحكومة، والأخرى المطبعة الماجديَّة لصاحبها محمَّد ماجد الكرديّ، فما تُخْرجه مطابع مصر يستقبله النَّاس بقبول حسن، ويَفْسح لصاحبه صِيتًا طيِّبًا بين المؤلِّفين والكُتَّاب.

وفي سنة 1381هـ=1961م أخرج عبدالكريم الجهيمان كتابًا عنوانه «دُخَان ولهب»، وكِتابًا عنوانه «أين الطَّريق؟»، وكِتابًا عنوانه «آراء فرد مِنَ الشَّعب».

وبين سنة 1356هـ التي استقبل فيها الجهيمان رسالته الصَّغيرة «بين ذي لِحْيَة ومحْلوقها»، وسنة 1381هـ التي أخرجتْ فيها مطبعة بيروتيَّة كُتُبه الثَّلاثة تلك، تقف تلك السَّنوات شاهدًا على تحوُّل خطير مَسَّ حياة هذا الرَّجُل، ودفعه إلى أن يَسْتبدل ضربًا جديدًا مِنَ الفكر بضرْب قديم، خلع فيها عباءة الشَّيخ وتدرَّع بأفكار المثقَّف، وبين هذين الضَّربين مِنَ الفِكْر يَخْتصِر لنا عبدالكريم الجهيمان سِيرة فِكْر جديد وُلِد في قلب المدرسة الدِّينيَّة التَّقليديَّة في وسط الجزيرة العربيَّة، ولكنَّه ما لبث أنْ أنشأ يُفَتِّش عنْ طمأنينته، على مبعدة مِنَ الإجابات النَّاجزة التي يُتيحها الفِكْر الدِّينيّ التَّقليديّ لمريديه.

لم يَظْهَرْ في سِيرة ابن بلدة «غَسْلة» مِنْ إقليم الوشم في نَجْد - ما يُنْبئ عمَّا آلَ إليه في حياتنا الثَّقافيَّة. اختلف إلى الكُتَّاب، كما اختلف أترابه مِنَ الأطفال، أتقن الكتابة، وتعلَّم الحِسَاب، وحفظ طَرَفًا مِنَ المتون في النَّحو والفقه والعقيدة، وحِين غادر بلدته وقصد الرِّياض، عاصمة الدَّعوة السَّلفيَّة، التحق بِحِلَق العِلْم الشَّرعيّ في المساجد، ولم تكنِ الرِّياض في تلك الـمُدَّة لِتُعْنَى بِعِلْم سوى العِلْم الشَّرعيّ، ولم يكنِ الأشياخ ليأنسوا إلى قول غير الذي انتحلوه رأيًا لهم.

وحين قصد عبدالكريم الجهيمان الحجاز، واستقرَّ به المقام بمكَّة المكرَّمة، كان كُلّ همّه أن يلتحق بوظيفة تكفل له عيشًا كريمًا، ولم يكنْ لتلميذ الدَّعوة السَّلفيَّة أن يختار مستقبله، وكان المتاح له إمَّا وظيفة في «هيئة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر»، وإمَّا وظيفة في سلاح الهَجَّانة، وكلتا الوظيفتين لديه سِيَّان، وأغلب الظَّنّ أنّ ذلك الشَّابّ الذي بهرتْه مكَّة المكرَّمة بعض البهر= لم يشغلْه مِنْ أمره إلا لقمة العيش، ولولا ذلك ما شَدَّ رحله إلى أمّ القرى.

كان مِنْ دأْب المكِّيّين أن يَطْلبوا العِلْم في أروقة المسجد الحرام، وفي جمهرة مِنَ المدارس التي أنشأها الأهلون، ويَطِيب لجماعة المكِّيّين، في بُداءة الأمر، أن يختلفوا إلى مدرسة «الفَلَاح»، ففيها اجتمع العِلْم الدِّينيّ، على ما ألفوه مِنْ أمر العلوم الدِّينيَّة في الحجاز، والعِلْم الحديث، على معهود ذلك العصر، ولم يكونوا، في الأعمّ الأغلب، ليَرْضوا بغير «الفَلَاح» بديلًا، بَيْد أنّ الحكومة أنشأتْ «المعهد الإسلاميّ»، الَّذي عُرِف، بعد ذلك، باسم «المعهد العِلْمِيّ السُّعوديّ» = يدرس فيه الطُّلَّاب العِلْم الشَّرْعيّ، على وفْق ما تَدْعو إليه الحركة السَّلفيَّة في نجد.

لم يَلْقَ ذلك المعهد إقبالًا ذا شأن في أوَّل نشأته، فالمكِّيّون لم يألفوا، بَعْدُ، ما يُتاح فيه مِنْ دروس، وليس مِنَ العقل أن يبقَى هذا المعهد مبنًى دون معنًى. فكَّر القائمون على الأمر ملِيًّا، ثمّ اهتدوا إلى أن يُزَيِّنوا للشُّبَّان النَّجديِّين الَّذين اتَّخذوا مِنْ مكَّة المكرَّمة مَثَابَةً لهم وسَكَنًا أنِ اختلِفوا إليه، فهم سَيُلْفُون فيه ما أَلْفَوْه مِنْ كُتُب الأشياخ، وهكذا وجد عبدالكريم الجهيمان طريقه هو وابن عمّه ممهودًا إلى المعهد العلميّ السّعوديّ، وهكذا آب تلميذًا يدْرس العِلْم الشَّرعيّ، ولكنْ هذه المرَّة في مكَّة المكرَّمة الَّتي جعلتْ كُتُبُ الدَّعوة السَّلفيَّة تزْحم ما سواها مِنْ كُتُب.

لكنَّ المعهد العلميّ السُّعوديّ فيه شيْء مختلف. نعم إنّ الطَّالب يُجَدِّد العهد بكتب «ثلاثة الأصول»، و«شرح العقيدة الواسطيَّة»، و«شرح زاد المستقنع» وما سواها مِنْ كُتُب المذهب، لكنَّ البيئة مختلفة، فالمعهد في مكَّة المكرَّمة، حيث يقرأ الأشياخ وطلبة العِلْم الصَّحيفتين اللَّتين تصدران فيها، وهما «أمّ القرى» و«صوت الحجاز»، وما يرد إليها مِنْ صُحُف مصريَّة ولبنانيَّة، وفي المعهد جماعة مِنَ الأساتذة المصريِّين والسُّوريِّين، وهم وإنْ كانوا أشياخًا في الدِّين، فإنَّ نفرًا منهم على معرفة طيِّبة بالأدب والثَّقافة الحديثة، ويقرأ نفرٌ منهم كتبًا حديثة، وبعضهم يُحِبّ الشِّعْر، ولعلَّه ينظمه، ثُمَّ إنَّ تَيْنك الصَّحيفتين المكِّيَّتين تذيعان في النَّاس ألوانًا مِنَ الثَّقافة الحديثة، ممَّا لم يألفْه عبدالكريم الجهيمان، فما يكتبه محمَّد حسن عوَّاد ومحمَّد سعيد العاموديّ وحمزة شحاته وعبدالقدُّوس الأنصاريّ وحسين سرحان وأحمد السِّباعيّ وآخرون = فيه إلحاح على ثقافة جديدة لم يعهدْها الجهيمان ورفقاء له في ذلك المعهد الدِّينيّ الَّذي اختلف إليه، ألفَى فيما يكتبون شَغَفًا بالأدب الجديد في مصر وبلاد الشَّام والمهجر، وعسَى أنْ وقعتْ عيناه على طرائف مِنْ كُتُب زعماء المدرسة الحديثة في تلك البلاد: طه حسين والعقَّاد وأحمد أمين ومحمَّد كرد عليّ وأحمد حسن الزَّيَّات والمازنيّ وجبران ونعيمه.

وليس ببعيدٍ أنَّ تلميذ الدَّعوة السَّلفيَّة لمْ يكنْ ليُحْسِن الظَّنّ فيما يقطع به أدباء الحجاز أوقاتهم، لم يأنسْ لأولئك الكُتَّاب الَّذين غَرِيَ نفرٌ منهم بأفكار لمْ يألفْها في كتب الأشياخ. غَضِبَ وثار لِمَا آمن به، وتجرَّد ليدفع عنْ نفسه تلك الفصول الَّتي يُذيعها أدباء يماثلهم في السِّنّ، لكنَّهم أدركوا مِنْ أمور الثَّقافة ما لم يُدْركْ، ولمْ يحتملْ فؤاده الَّذي لمْ يتَّسِعْ لما سِوَى متون الفِقْه والعقيدة والتَّوحيد أن يقرأ في «صوت الحجاز» كلامًا كتبه حسين سرحان استنكر فيه ما ظنَّه مخالفة لأوامر الدِّين، فانبرَى عبدالكريم يكتب مقالة، ثُمَّ يدفع بها إلى الصَّحيفة، ولمْ تكنْ مقالته تلك لتختلف عنْ خُطب الأشياخ ومواعظهم، إلَّا أنَّ الجهيمان اختار لـ«خُطْبته» الصَّحيفة لا المسجد.

على أنَّ عبدالكريم الجهيمان، الشَّيخ وداعية السَّلفيَّة، لمْ تلبثْ أنْ تقلَّبتْ به الأيَّام، واتَّصلتْ أسبابه بألوان مِنَ الفكر لمْ تُتَحْ له مِنْ قبْلُ، وطاف في غير رجًا، حتَّى استقرَّ به المقام، حينًا مِنَ الدَّهر في المنطقة الشَّرقيَّة، وفيها أصدر صحيفة «أخبار الظَّهران»، وأنشأ يكتب مقالاته الَّتي كانتْ سِياطًا مِنْ نار، يُلَوِّح بها في وجوه الاستعمار والإقطاع والطَّبقيَّة، وبينما استنكر داعية السَّلفيَّة على حسين سرحان، في مكَّة المكرَّمة، التَّعبير عن الخشوع في حضرة النَّبيّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذا به يكتب المقالة تِلْوَ المقالة داعيًا إلى تعليم فتيات بلاده، حتَّى إذا ضاق بها المتنفِّذون وأصحاب المصالح، أَوْقفوا صحيفته، ثُمَّ لمَّا تَقَدَّمَ بنا الزَّمان اقتِيدَ الجهيمان إلى المعتقل لأنَّ تلميذ الدَّعوة السَّلفيَّة القديم وجدتْ أجهزة الأمن، في خزانة كتبه، حين كبستْ بيته، كتاب «رأس المال» لفيلسوف الشُّيُوعيَّة كارل ماركس!
صحيفة مكة المكلمة، السبت 17 شعبان 1438 - 13 مايو 2017

بواسطة : admin
 0  0  2.3K
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 12:37 صباحًا الجمعة 19 أبريل 2024.