• ×

02:00 صباحًا , الإثنين 29 أبريل 2024

رمز ثقافي ووطني جريء

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
عبدالمحسن يوسف.

- عكاظ

قبل سنوات، التقيته في المطار، في البدء رأيته رجلاً كبيراً، يجلس في هدوء، يطالع كتاباً.. حدقت جيداً.. وإذ بالكتاب الذي يطالعه ذلك الرجل الكبير المحترم هو كتاب «الخطيئة والتكفير» لأستاذي الدكتور عبدالله الغذامي.. إبان صدور ذلك الكتاب الذي أحدث وقتها ضجيجاً هائلاً.. كنت رفقة عدد من الأصدقاء، وكنا متجهين إلى «جازان» لحضور محاضرة للصديق السريحي.. اقترح الأصدقاء أن نقتحم خلوة ذلك الرجل المسن الذي يقرأ كتاباً «بنيوياً» أن نتعرف عليه، وأن نلقي عليه التحية.. اقتربنا منه، وإذا به الأستاذ المحترم عبدالكريم الجهيمان.. أحد رموزنا الثقافية الوطنية الناصعة.. عندما رآنا نقترب، نهض مرحباً ببشاشة حقيقية، وعانقنا واحداً.. واحداً.. نحن شباب، نحن شباب، فيما السيد الجهيمان يكبرنا بسنوات وبرصيد وافر من الثقافة والتجربة. ورغم ذلك ما لمسنا منه جفوة.. أو استعلاء.. أو شعوراً بأستاذية - وهو الأستاذ - بل إنه عندما حدق في وجوهنا جيداً.. عرفنا واحداً.. واحداً.. سأل عن وجهتنا.. قلنا: جازان.. وحين سألناه عن وجهته قال: الرياض.. لكنه أردف بحكمة الرجل الكبير: تبدو طرقاتنا مختلفة.. لكن هدفنا واحد.. إنني أتذكر تلك الجملة الأخيرة جيداً.. فرنينها لا يزال في ساطعاً حتى اللحظة.. أكبرت الرجل الذي رغم أنه يحمل كل تلك السنوات فوق كتفيه ويسبقنا في تجربة الكتابة بأجيال لم يقطع جسر لتواصل معنا - نحن الشباب - بل لم يقطع جسر التواصل مع الطرح الجديد.. بدليل أنه كان يستثمر وقته في صالة المطار في قراءة كتاب نقدي صارم يطرح رؤية جديدة لمعالجة النص الإبداعي - رؤة جديدة على ساحتنا الأدبية حينذاك.. الجهيمان يقرأ كتاباً أثار عواصف عاتية.. ورشقه المناوئون كما رشقوا مؤلفه «الدكتور الغذامي» بأسوأ النعوت.. وأحط الكلمات.. وأشدها ضراوة وخبثاً.. مع أن أكثر أولئك الغاضبين سارعوا إلى إدانة الكتاب من دون أن يعملوا عقولهم أو يجهدوا أعينهم في صفحاته.. لكن الأستاذ الكبير عبدالكريم الجهيمان لم يسمح لنفسه بالتورط في تلك الضحالة.. ولم يسمح لنفسه أن يغرد في ذلك السرب الرديء.. ولم يسمح للفارق الزمني «العمري» أن يقف دون قراءة الكتاب وفهمه.. وفعلاً قرر أن يقرأ وأن يفهم.. ولو فعل غيره هذا - ثم انخرط بعد ذلك في الممارسة النقدية وإن جاءت رافضة لبدا فعله الرافض مشروعاً.. فمن حق كل إنسان زن يقبل فكر غيره. ومن حقه أن يرفضه أو يختلف معه.. لكن هذه الأحقية يكتسبها ذلك الإنسان متى ما فتح كل نوافذه وعلى ضفاف ذلك الفكر الجديد.. وراح يتعاطي معه بعقل منفته، وبصدر رحيب.. وله بعد ذلك أن يقول فيه ما يشاء. الأستاذ الكبير عبدالكريم الجهيمان رجل يعي أن العمل الثقافي سجال.. وجدان.. وأخذ وعطاء وأنه قبل هذا وذاك محبة وليس حروباً طاحنة أو مباغتات كريهة.. أو ممارسات كيدية، أو أفخاخاً مغرضة.. الأستاذ الجهيمان يعي جيداً أن العمل الثقافي أفق كبير يتسع لتحليق كل الأجنحة.. وأنه طريق طويل عريض يستوعب كل الخط الوئيدة والمسرعة.. إن الجهيمان الذي يكرمه مهرجان الجنادرية هذا العام رمز وطني شريف يستحق التكريم، وقامة ثقاية باسقة تؤمن بجدوى الثقافة التي تنعكس على حركة الواقع الاجتماعي.. فتضيف وتغير وتدفع بالناس إلى النور الكريم، وإلى الحياة الكريمة.. إن الجهيمان، وبشهادة عدد من كبار الكتاب في بلادنا رجل رائع.. ووطني جريء.. ومثقف حالم منذ ذلك الزمان الحافي بصباح أفضل كلما استيقظ.. وصحفي رائد حمل قلمه سلاحاً لا يصدأ ولا ينكسر ولا يتوعك ولا يرتعد.. إنه الأديب المهموم منذ كتاباته الأولى بفضح «المائل»، ودعم «المعتدل».

- المصدر: عكاظ العدد 12560 الاثنين 20 شوال 1421هـ 15 يناير 2001م *

بواسطة : admin
 0  0  1.2K
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 02:00 صباحًا الإثنين 29 أبريل 2024.