أنني في هذه الرحلة لا أكاد استقر في مكان حتى أرحل منه إلى مكان أخر وكل انتقال من مكان إلى مكان أخر.. يكلفني غالبا.. انه يكلفني جهدا.. ويكلفني وقتا.. يثقلني هما وارهاقا وقلقا ان السفر هو السفر منذ زمان وحتى الأن.. انه قطعة من العذاب.. لقد اختصروا لنا الوقت بهذه الوسائل الحديثة من طيارات وقطارات وسيارات.. ولكنهم لم يختصروا من الهم والقلق والإرهاق في تلك الرحلات القصيرة الوقت الكثيرة الهموم والهواجس.. وهناك هموم الغربة الكثيرة التي تزيد الطين بلة ..
ومن أشد هذه إيلاما فقدان الأحبة والأصدقاء الذين ترتفع الكلفة فيما بيني وبينهم.. والذين أرسل نفسي بينهم على سجيتها.. وأطلق لساني بالحديث بينهم بلا تكلف.. وبلا حساب ..
أما في هذه الرحلات.. فأنني لا أفهم كثيرا مما يدور حولي من أحاديث ولذلك فأنني أقضي معظم الوقت صامتا.. وأسمع لغة غير لغتي.. لا أفهم منها قليلا ولا كثيرا.. ثم أنني أعيش غريبا بين قوم لا أعرفهم ولا يعرفونني.. ولا أعرف الكثير عن تقاليدهم وأخلاقهم.. ولذلك فأنني أحسب حسابا لكل حركة اتحركها أو كلمة أنطقها.. أنني لا أريد أكون شاذا في أي تصرف من تصرفاتي.. وهذا طبعا يكلفني يقظة مستمرة.. وحذرا دائما من أن ارتكب شيئا من التصرفات التي تلفت الي الأنظار.. ولا يخفى ما في هذه اليقظة وهذا الحذر من ارهاق ومخاوف تقلق راحتي.. وتجعلني أقرب الى التمثيل.. من الصدور عن الطابع الأصيل.. وأنا انسان حساس.. وأنشد الكمال في كل أمر من أموري.. وبلوغ الكمال فوق مستوى الأمال..
شعرت وأنا في أمريكا بمتاعب المدينة وتعقيداتها.. ومتاعب المجتمعات المتحضرة.. ومتطلبات حياتهم الكثيرة المتعددة التي ترهق نفوسهم وترهق جيوبهم بما تتطلبه من أمور كثيرة لا حصر لها ولا عد ..
وعرفت من هذا مزايا المعيشة البسيطة التي ليس فيها تعقيد.. وليست لها متطلبات مرهقة.. وقد لا يشعر بهذا الفارق العظيم بين المعيشتين إلا من جرب هذه وتلك.. وعرف مزايا هذه.. وعرف متاعب تلك ..
كنت أتصور سابقا أن كل أمريكي غني.. وكل أمريكي ثاقب الفكر.. متوقد الذهن.. خارق الذكاء.. يفوق الأخرين في خبراته.. يفوق الأخرين بقدراته.. ولكنه اتضح لي أخيرا أنني مسرف في هذا التصور.. متجاوز فيه حدود الواقع.. صحيح أن النوابغ عندهم كثيرون ولكنهم ليسوا كلهم نوابغ.. ثم أن أفكارهم ومعلوماتهم اقليمية محدودة أنهم لايعرفون من أحوال الأمم الأخرى مثل ما نعرف عنها.. فلا أدري هل مصدر هذا أنهم يرون أن يهتم بهم الأخرون.. وأن لا يهتموا هم بالأخرين.. أم أن أمور معيشتهم تشغلهم عن المعلومات العامة عن الأمم الأخرى.. أم أن هناك سببا أخر يفرض عليهم هذا المسلك ..
أن النوابغ من الأمريكان متفوقون في تخصصاتهم التي حصروا حياتهم ونشاطهم فيها.. فاذا خرجت بأحدهم من هذه الدائرة الضيقة لم تجد عنده شيئا ذا بال.. بل انك قد لا تجد عنده شيئا على الإطلاق.. والسواد الأعظم من الأمريكان ليسوا أغنياء.. بل أن ما يكسبون من ثمار أعمالم لا يكاد يكفي متطلبات حياتهم..
ولذلك فإنك تجد معظم مشترياتهم بالتقسيط.. انهم لا يملون كل ما يحتاجونه ولذلك فإنهم يلجأون إلى هذه الطريقة في معظم مشترياتهم مثل السيارة وأثاث المنزل.. ومعدات المطبخ.. وأقيام المنازل التي قد يشتريها بعضهم.. ويدفع أقيامها في أوقات قد تطول وقد تقصر.. والأمريكي يدفع قيمة هذا التقسيط. ان التاجر يأخذ مقابل هذا التأخير في الدفع مبالغ يضيفها
الى القيمة الأصلية.. ويتحملها المشتري تحت طائلة الضرورة .. ثم يبذل جهودا مضنية لزيادة الدخل.. وإذا عجز عن الدفع في ظرف من الظروف فان السلعة التي اشتراها تستعاد منه ويكون ما دفعه من أقساط مقابل ما استهلكه في استعمال تلك السلعة التي اشتراها..
تجولنا في سلسلة جبال روكي.. ودخلنا في أعماقها عدة مرات.. ومن طرق مختلفة.. وقد كنت تحدثت اليك أيها القارئ الكريم عن طولها وهي أنها تشق أمريكا من طرفها الشرقي.. وتمتد إلى طرفها الغربي.. أما عرضها فانني لا أعرفه.. وقد تعمقنا فيها ذات مرة ما يقرب من أربعين ميلا ومع ذلك فاننا لم نصل إلى نهاية عرضها.. ولقد شاهدت في تلك الجبال.. مختلف المناظر البديعية الأخاذة.. من قمم عالية مكسوة بالثلوج وسفوح هادئة مليئة بالأشجار والأعشاب.. ووديان قد تجمد الماء فيها. وتراكم في تلك المجاري.. ينتظر الصيف ليذوب.. ويجري في تلك المجاري صافيا سلسالا.. ورأيت بين تلك الجبال بحيرات متعددة قد تجمد الماء فيها أيضا.. وصارت مكانا مفضلا للتزلج وممارسة هذه الرياضة المحبوبة لدى الأمريكان..